رباب عبدالله
.


سنة، كانت سنة.. وَ مرّت، كما مرت سنوات الطب أجمعها، لكنها سنة ليست كباقي السنوات بالطبع، ففي هذه السنة ستعمل كطبيب و طالب في ذات الوقت، ستتعلم الكثير من الأشياء "التطبيقية و العمَليّة"، ستعمل في فريق من أجل صحة المرضى، ستتعرف على كثير من الناس، ستتابع حالات مرضاك، و لا شك ستعيش كثيرًا من القصص قد يكون بعضها عاديًا و بعضها الآخر غريبًا، بعضها يُلهمك و ربما بعضها الآخر يحبطك، و كذلك ستواجهك مواقف ستحبها أو تكرهها و لا بأس في ذلك كله، فهكذا تمضي الحياة..! 



كيف كانت سنتي؟ رائعة! باختصار.. 
كيف بدأتها؟ بحماس ربما يفوق الـ ١٠٠٪
كيف أنهيتها؟ بحماس يساوي الصفر بالمئة!
و لا تسألوني لماذا، لا بدّ أن من مرّ بتجربة الامتياز يعرف هذا الشعور..! 

في سنة الامتياز، عرفتُ أهميّة العمل في فريق متكامل لخدمة المرضى، فلكل فرد في الفريق دوره.. و لكن يحدث أحيانًا أن تعمل في فريق غير متعاون أو لا مبالٍ.. و الفريق الطبي قد يُحبّبك للعمل أو قد ينفّرك منه، لكن دائمًا ضع نصب عينيك أن تعمل بإخلاص.
من المصاعب التي واجهتني خلال سنة الامتياز هي السؤال الدائم في كل دورة أو "روتيشن": ما هو دوري؟ 
من يجيبني على هذا السؤال؟ في أغلب الأحيان الطبيب المقيم "الجونيور"، أو ربما "السينيور"، و في بعض الأحيان الأخصائي، و نادرًا الإستشاري..
و طبعًا الجواب يختلف.. من مشفى لمشفى، و من تخصص لتخصص، و من فريق لفريق! و على أية حال فدائمًا ما تكون المهمة الأساسية هي أخذ التاريخ المرضي و الفحص و تدوين الملاحظات اليومية و ملخص الخروج تحت اشراف الطبيب المقيم "الجونيور".. هذه المهام الأساسية و قد تكون لك مهام أخرى غيرها.. لكنّ المهم في ذلك كلّه هو أن يكون دوري "واضحًا".. و مفيدًا بشكل أو بآخر.. أذكر أحد الإستشاريين مثلًا لم يكن يريدُني أن أقدّم شيئًا أبدًا سِوى أن أجيب على أسئلته العلمية بالإضافة إلى تحضير موضوع عِلمي للمناقشة، على الرغم من أنني أقوم بكتابة الملاحظات اليومية للمريض و أتابع تحاليله، لكنّه كان يفضل أن يناقش الطبيب المقيم، فتعجبتُ من أسلوبه هذا، و راودني شعور بأنني "مزهرية".. فما أهمية وجودي كطبيبة امتياز يا تُرى؟ 
أكثر المهام كطبيب امتياز تكون عادة تحت اشراف الطبيب المقيم "الجونيور"، و هؤلاء الأطباء مصنفون في تعاملهم مع طبيب الامتياز إلى عدّة أصناف، أذكر أمثلة لأنواع الأطباء الذين عملتُ معهم: الطبيب الذي لا يُلقي لك بالًا و لا يعترف بوجودك و لا بدورك في الفريق، و إن كان لك دور ما فهو أن تحمل الملفات و تجلب الأوراق.. 
و الطبيب الذي يرى نفسه "الآمر الناهي" و عليك أن تنفذ أوامره دون تذمّر.. حتى لو كلفك بمهامه قبل مهامك.. و الطبيب اللامبالي، ذاك الذي يكلفك ببعض المهام ثم ينساك و ينساها! و الطبيب "الطيّب" و كم تحمل هذه الكلمة من معانٍ كثيرة ، و أهم الأنواع لديّ الطبيب "المُخلِص" : المخلص في عمله كطبيب، و كمشرف عليك، و زميل لك في المهنة.. و أحمد الله أن أغلب من عملت معهم كانوا من هذا الصنف..
و مع اختلاف أصناف الأطباء الذين ستعمل معهم، دائمًا تذكّر أن تعمل بإخلاص، حينما لا تعرف شيئًا قُل لا أعرف، لا تتردّد في طلب المساعدة، و اسأل دائمًا عن كل ما يُشكل عليك.. 


من التجارب التي تحمست لخوضها مع بداية الامتياز كانت تجربة "المناوبة".. و لم أكُن أعرف ما يتوجب عليّ فعله آنذاك غير أنني كنتُ أبلّغ الطبيب المقيم المناوب بأنني سأكون معه هذا اليوم و أزوّده برقمي ليكلمني في حال احتاج لمساعدتي أو رأى حالة من الممكن أن أستفيد منها.. و هكذا كنت أقضي مناوباتي في بادئ الأمر مع تخصص الجراحة، بين غرفة الطوارئ لأرى أي حالة جراحية فآخذ منها التاريخ المرضي و أقوم بعمل الفحص اللازم ثم أراجع الحالة مع الطبيب المناوب، أو في العنبر الجراحي لأرى ما إذا كانت الممرضات بحاجة لشيء ما.. هكذا كانت مناوباتي في أول شهرين، مُتعبة و ممتعة في الوقت ذاته، كنتُ أشعر بالإنجاز و بالسعادة حينما أراني أقدّم شيئًا مفيدًا
ثم أتى بعده تخصص آخر، في مشفى آخر.. حيث كنتُ أقضي مناوبتي إما في الغرفة المخصصة لنا، أو أتنقل بين العنابر الطبية لأقوم بإدخال الأدوية و التحاليل للمرضى.. و لا أخفيكم أنّي كنتُ أشعر بالملل، و الإجهاد الذي كان من الممكن أن يخففّه عني لو أن كل طبيب التزم بإدخال أدويته و تحاليله لمرضاه! أذكر مثلًا أنني كنت مناوبة في يوم من أيام الأسبوع العادية.. فما أن انتهت الممرضات من استلام "الشفت" الجديد حتى بدأ الـ overhead يصدح في أنحاء المشفى "medical intern.. medical intern" في كل عنبر طبي! رحت أدور  بين العنابر، و بينما كنتُ مشغولة في إدخال الأدوية صادفتني الطبيبة المقيمة المناوبة MROD ، لتخبرني بأن الممرضات في مكان آخر يحتاجونني لإدخال البلازما FFP لمريض ما، فتساءلت في نفسي عن السبب الذي يمنعها من إدخاله إن كانت هي هناك قبل قليل.. أم أن مهمة إدخال الأدوية صارت من مهام طبيب الامتياز فقط -مع العلم بأنها ليست من مهامنا أصلًا- ذهبت للمرضات، و قمت بإدخال الأدوية اللازمة للمرضى، و مع تصفحي للملفات الطبية لأتأكد من الدواء و جرعته رأيت أن بعضها مكتوب من الصباح فتساءلت لماذا لم يقم الطبيب المسؤول بإدخال أدويته لمرضاه؟ بل كيف ينصرف عن عمله دون أن يتأكد من ذلك؟ و لماذا أتحمل أنا هذا العبء؟ و لماذا تقتصر مهمتي الآن على هذه المهمات السخيفة من ادخال أدوية و تحاليل و هي ليست من مهماتي..؟ مادا سيقدّم لي ذلك كطبيبة امتياز؟ انتهت مناوبتي و حمدت الله أنها كانت آخر مناوبة لي في ذلك التخصص.. فشتان بين أن تقضي مناوبتك تُفيد و تتعلم، و بين أن تقضيها لتُكمل المهام التي تركها الآخرون لانعدام المسؤولية عندهم و دون أن يفيدك ذلك في شيء..! 

و في سنة الامتياز، مررتُ بمواقف كَـ "أول مرة"، و للتجربة الأولى دائمًا طعم خاص، أذكر مثلًا


أول progress note أكتبها، و على الرغم من أنني قد راجعت كيفية كتابتها مسبقًا إلا أنني استغرقت ساعة تقريبًا في كتابتها.. و لم تكن الحالة صعبة أو معقدة! لكم أن تتخيلوا ذلك

أول مرة يطلب مني الاستشاري أن أعرض أمامه الحالة الطبية -في يومي الثاني كطبيبة امتياز- و لم أكن وقتها متأهبة لذلك فبدأت أتلعثم و "جبت العيد".. 

أول غرزة أقوم بخياطتها، و على الرغم من أنها لم تكن "مضبوطة" كما يجب، و استغرقت فيها ضعف الوقت اللازم حتى أن تأثير المخدر الموضعي قد انتهى و لم ننته بعد من خياطة الجرح كاملًا، إلا أن المريض قام بشكري كثيرًا

أول مشاركة لي في عملية الإنعاش، إذ أحسست بالتعب و لم أكمل حتى دورة واحدة.. فناديت switch please! 
و سعادتي برجوع النبض إلى المريض بعد أن استمرت عملية الإنعاش إلى ما يقارب الساعة.. لكننا لم نكمل نصف ساعة حتى استقبلنا حالة أخرى، لكن المريض هذه المرة قد فارق الحياة..و يا لها من دنيا

أول NGT أقوم بإدخاله، بعد تردد شديد مني، و إصرار أشد من زملائي حتى أنفذ هذه المهمة.. تليه فرحتي الجامحة بإدخال الأنبوب في مكانه الصحيح من أول مرة، رغم اكتشافي أن المريض قد كان عنده التهاب رئوي pneumonia كما ظهر لنا في الأشعة، و لم أقم بأخذ احتياطات السلامة

...
تُتيح لك سنة الامتياز اكتشاف التخصصات عن كثب، و خلالها تستطيع أن تكوّن فكرة أقرب عن كل تخصص.. فالبنسبة لي مثلًا أكثر التخصصات متعةً كانت طب الأطفال و طب الطوارئ و الطب الوقائي، و أكثرها فائدة  الطب الوقائي و طب الأحياء الدقيقة، و أكثرها مللًا طب النساء و الولادة، و أكثرها كآبة طب الباطنة -بلا منازع- فخلال دراستك ربما تكون فكرة عن الأمراض في كل تخصص و كيفية علاجها، لكن الأمر على أرض الواقع مختلف... فقد كنتُ أستمتع عند قراءتي لأمراض طب الباطنة، لكنني لم أطِق التعامل مع هذا التخصص على أرض الواقع.. 
...


يبدو أنني أطلتُ هذه المرّة، و مازال في جعبتي الكثير عن سنة الامتياز
لا أنسى أن أشكر كل من عملتُ معهم، كل من نصحني و علّمني و أرشدني، كلّ من أبدى لي تقديرًا أو شجعني.. كنتُ فعلًا محظوظة بالعمل معكم..!
و لكل زملائي في الدفعة ٢١٢، أسأل الله لكم التوفيق جميعًا.. 

أنهيتُ سنتي كطبيبة امتياز قبل شهرين.. و ها أنا ذي أستعدّ لأبدأ رحلة التخصص كطبيبة مقيمة في شهر أكتوبر بإذن الله.. و كان تخصصي الذي اخترته عن حُب و رغبة "الطب الوقائي".. أسأل الله أن يكتب لي فيه الخير و التوفيق

هنا تقرؤون أيضًا


0 التعليقات

إرسال تعليق

Join me on Facebook Follow me on Twitter